أسماء بنت يزيد الخطيبة الفارسة
هي فارسة الفرسان، وأميرة الفصاحة والبيان، حباها الله لسانا طلقا بليغا تتلألأ الحروف والكلمات بين شفتيها، فتشق طريقها إلى العقول والقلوب بلا عناء.
جمعت أسئلة النساء، وحملتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعادت إليهن بالإجابات الشافية والردود الوافية، والحقائق الجامعة المانعة، التي تشفي الصدور وتروي ظمأ النفوس.
وفي الجهاد كانت لها صولات وجولات؛ تسقي وتداوي وتحمل السيف في سبيل الله وتخطب في الناس، فتشتد العزائم وتزداد الإرادة قوة وصلابة.
هي أسماء بنت يزيد الأنصارية الأوسية، ابنة عم الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنهما، أعلنت إسلامها في العام الأول من الهجرة المشرفة، صاحبة علم ودين، وفقه ويقين، بايعت الرسول مع النساء وأوفت بما بايعت طبقا لما ورد في الآية الثانية عشرة من سورة الممتحنة، آمنت بربها، وصدقت نبيه، لم تسرق، ولم تزن ولم تقتل ولدا، ولم تأت ببهتان، ولم تخالف معروفا.
يقول الحق تبارك وتعالى: “يَا أَيهَا النبِي إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُن وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِن وَأَرْجُلِهِن وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُن وَاسْتَغْفِرْ لَهُن اللهَ إِن اللهَ غَفُورٌ رحِيمٌ”.
جاءت أسماء بنت يزيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأل في أمر يشغل النساء المسلمات، قالت بلسانها الذي يفيض فصاحة وبلاغة: يا رسول الله، إنني رسول مَن ورائي من جماعة نساء المسلمين، كلهن يقلن بقولي، وهن على مثل رأيي، إن الله بعثك إلى الرجال والنساء، فآمنا بك واتبعناك، ونحن معشر النساء مقصورات مخدرات، قواعد بيوت، ومواضع شهوات الرجال، وحاملات أولادهم، وإن الرجال فضلوا بالجمعات “صلاة الجمعة” وحضور الجنازات والجهاد في سبيل الله، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم، وربينا أولادهم، أنشاركهم في الأجر؟
التفت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى صحابته الكرام رضي الله عنهم وسألهم:
“هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالا عن دينها من هذه”؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال الرسول: “انصرفي يا أسماء، وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها لمرضاته، واتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال”.
فانصرفت أسماء وهي تهلل وتكبر فرحا وبشرا بما قال النبي الكريم.
وحسن تبعل المرأة يعني تفانيها في طاعة زوجها وحسن رعايتها له ولبيتها وأولادها، وحفظها له في ماله وفي عرضها.
سعت أسماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله كعادتها فيما يهم النساء في حياتهن، سألت عن كيفية التطهر من دم الحيض والنفاس وكيف تغتسل، وتزيل آثار الدماء، فنظر إلى عائشة كأنه يطلب منها العون في هذا الموقف الحرج.
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: أن امرأة “أسماء بنت يزيد” جاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل.
قال: “خذي قرصة من مسك فتطهري بها”.
قالت: كيف أتطهر؟
قال: “تطهري بها”.
قالت: كيف؟
قال: “سبحان الله تطهري”.
فاجتذبتها إليّ، فقلت: تتبعي بها اثر الدم.
حشد الروم جيوشهم في معركة اليرموك، وجاؤوا بكامل عدتهم وعتادهم في السنة الثالثة عشرة للهجرة لقتال المسلمين في بلاد الشام، وشاركت أسماء بنت يزيد في هذه المعركة مع غيرها من النساء المسلمات، فكانت تسقي الماء، وتعالج الجراح، وتقاتل مع الفرسان.
وكما روى المؤرخون فقد قتلت تسعة من جنود الروم بعمود خيمتها في هذه المعركة.
ومع هذا الدور الكبير، كانت تحث الجميع على الجهاد في سبيل الله، ونصرة الدين الحق، وتدعوهم إلى الصمود في وجه الأعداء، والقتال من اجل النصر أو الشهادة.
حضرت أسماء غزوة خيبر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت كعادتها تخطب في الجميع، وتنادي بأعلى صوتها، وبكلمات تشق طريقها إلى العقول والقلوب: ان قاتلوا في سبيل الله، وانصروا رسول الله وارفعوا راية الإسلام.
وأصل كلمة “الفصاحة” من اللبن إذا أفصح، أي ذهبت رغوته، وظهرت حقيقته فهي تعني الوضوح والبيان وأيضا الجمال والكمال.
والكلمات القوية الصادقة لها أثر كبير في النفوس بها ترتفع الهمم إلى القمم وتتبدد الآلام وتتجدد الآمال.
يقول الله تبارك وتعالى في محكم آياته: “إِن اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَن لَهُمُ الجَنةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التوْرَاةِ وَالإِنجِييلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ”.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لغدوة أو روحة في سبيل الله خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب”، وقال أيضا: “الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها”.
استجابت أسماء بنت يزيد لنداء ربها، ودعوة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وسعت طوال حياتها في طريق الخير.
كانت تتعلم وتعلم النساء، وتتحدث في أمور الدين والآخرة، وتشارك في الغزوات بيدها الحانية في علاج الجرحى، وبلسانها البليغ في النداء للجهاد، وبسيفها إذا اقتضت ظروف الحال. ولو أنها ترددت أو تكاسلت لأضاعت على نفسها وعلى بنات جنسها الفرصة في العلم بأمور الدين والدنيا.
لكنها أقدمت وتقدمت وسألت وحصلت على الجواب الشافي، فاستفادت وتعلمت وعلمت النساء، وصارت قدوة ومثلا في هذا الاتجاه.
وقيل إن أسماء بنت يزيد بعد أن شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر، وقامت بواجبها خلالها خير قيام، كما فعلت في سائر الغزوات، عاشت سبعة عشر عاماً تدافع عن رسالة الإسلام، وتدعو للجهاد في سبيل الله وتحمل هموم النساء بوجه خاص، تعلمهن أصول دينهن ودنياهن، من خلال علم اكتسبته على مر الأيام والأعوام.
رحم الله خطيبة النساء التي لم تحمل اسم أسماء بنت أبي بكر الصديق فقط، لكنها سعت على دربها، ونسجت على منوالها في الفروسية وطلب العلم، وأيضا في الحكمة والفطنة وحسن البيان.صلى الله عليه وسلم غ