الظالمون لأنفسهم
من هم عاكفون على المعاصي وفي غفلة طيلة السنة، ثم هم ما
أن يسمعوا برمضان حتى تأخذهم نشوة وغبطة أنهم سيتابعون أخيرًا الجزء الأول أو
الثاني من المسلسل الفلاني، وغدًا سيرون الفوازير والكاميرا الخفية، والبرنامج الفلاني
المضحك، وسيقيمون الدورة الرمضانية والخيمة الرمضانية، والسهرات والمسابقات،
فيبدؤون بالإعداد لهذا من تنظيم دورات رياضية وشعرية وغنائية وغيرها، وبناء الخيم
والبيوت الخشبية التي سيجتمعون بها من أجل الدقِّ على العود، وشرب الشيشة، ولعب
الورق، والطاولة واللغو حتى الفجر، فإذا قال المؤذن: "الله أكبر" لصلاة
الصبح، ذهبوا إلى فراشهم للنوم، نسأل الله العافية، فهؤلاء ما قدروا الله حق قدره،
وما عرَفوا قيمة رمضان، ولا عرفوا هدي النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في رمضان.
ومن استعداداتهم أيضًا: شراء ما لذَّ وطاب من ألوان
المأكولات والحلوى، والإفراط في هذا، وكأن حربًا ستقوم أو مجاعة ستعم الناس عمَّا
قريب، فإن صاموا يومَهم رأيتهم كالأموات، هذا مغضب عابس الوجه؛ لأنه لم يدخن
اليوم، وهذا مزاجه معكر لا يطيق أن يرى أحدًا، وهذا يُخل بدوامه وانتظامه، وهذا يقضي
يومه غاطًّا في سبات عميق، وهكذا إلى أن يؤذن للمغرب فيأكلون ويشبعون، ولله الحمد
والمنة على نعمه، ولكنهم يثقلون على أنفسهم، فتراهم لا يستطيعون أداء الصلوات
بعدها على أكمل وجه، ففي النهار لا يؤدون العبادات والأعمال على أكمل وجه بسبب
الجوع، وحجتهم في هذا أنهم صائمون، وبعد المغرب لا يؤدونها على أكمل وجه أيضًا،
ولكن بسبب الشبع الزائد هذه المرة، فتزيد أوزانُهم في رمضان أكثر من غيره، ويأتي
رمضان عليهم ويذهب وما فعلوا فيه شيئًا من العبادات والقربات، ولا حول ولا قوة إلا
بالله؛ قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «رغم أنف رجل دخل
عليه رمضان، ثم انسلخ قبل أن يغفر له»
[صححه الألباني].
وقد يدخل في هذا القسم أيضًا أناس أرادوا التوبة، أو
أرادوا التفرُّغ للعبادة، فقالوا: إذا جاء رمضان غدًا، سوف نعمل ونفعل ونتوب، فإذا
جاء رمضان ما فعلوا ما أرادوه، وإنما هذا له سببان رئيسان: أما الأول: فهو عدم صدقهم
مع الله، فثبَّطهم الله عن عبادته؛ لأن عبادة الله هي توفيق منه سبحانه وتعالى فلو
أنهم صدقوا الله ما قالوا: "إذا جاء رمضان سنتوب"، بل لتابوا من حينها،
والسبب الآخر: أن العبادة لم تكن لهم ديدنًا وسمة، فأنت يا أخي مثلاً إن لم يكن لك
وردٌ يومي من القرآن تقرؤه يوميًّا، فسوف ترى الأمر صعبًا جدًّا أن تختم القرآن في
رمضان، وإن لم تجاهد نفسك في الصلاة على الخشوع فيها دومًا وأبدًا، سوف تواجه
صعوبة في التلذذ بها في رمضان، وستجد صعوبة في قيام رمضان، ولهذا نرى المساجد في
أول رمضان قد امتلأت، وصفوف المصلين قد تصل إلى خارج المسجد، وأما في آخر رمضان قد
يصل المصلون إلى نصف المسجد فقط.