الصيام المقدس
سعد بن محمد البخيت
هكذا قدسه
الله حين أضافه - سبحانه - إلى نفسه بنفسه، فقد روى لنا نبينا - صلى الله
عليه وسلم - عن كلام ربنا أنه قال: (( كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه
لي..)) متفق عليه.
((فإنه لي)) هذه الخصوصية
في الإضافة وما تضمنته من الشرف والقداسة ما كان لها أن تمر على أذهان
العلماء دون أن تثير انبهارهم وتحير ألبابهم، فتستنفر كوامن فهومهم
للتحليق في فضاءات جمالها.. واستكشاف أبعاد مضامينها.. والدوران في أفلاك
إشاراتها.. فإذا بها تنجلي لهم عن نجوم زاهرة.. وأنوار هادية.. تأخذ بعقل
اللبيب وقلبه إلى مساحات من الجمال والهداية والنور.. فيشعر بالسكينة
تتغشاه.. والطمأنينة تسري في كيانه.. هاهو عبقري من عباقرة الحديث يكشف
معنى مخدراً (مغطى) في مضامين تلك الجملة القدسية بقوله:
"سبب تخصيصه بالإضافة لله
مع كون جميع العبادات لله، أنه لم يعبد به أحد غير الله - تعالى -، فلم
يعظم الكفار في عصر من الأعصار معبودا لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه
بصورة الصلاة والسجود والصدقة والذكر وغير ذلك". (بتصرف من شرح مسلم
للنووي7 / 271)
في حين يكشف فئام من العلماء معنى آخر جليلا يتواطئون عليه وهو:
أن الصوم يتعذر فيه
الرياء بخلاف غيره.. فإن مرد الصيام إلى فعل القلب.. وأما الجوارح فليس
لها فيه إلا الترك.. ويعبر عن هذا أبو عبيد في غريبه بقوله:
قد علمنا أن أعمال البر
كلها لله وهو الذي يجزي بها، فنرى ـ والله أعلم ـ أنه إنما خص الصيام؛
لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله وإنما هو شيء في القلب.
ويتناوب ثلة من الأئمة توضيح هذه الجملة بعبارات رائقة.. فها هو ابن الجوزي - رحمه الله - يقول:
"جميع العبادات تظهر بفعلها وقلَّ أن يسلم ما يظهر من شوبٍ، بخلاف الصوم".
ويزيد الأمر جلاء وبهاء؛ هذا النص النفيس للإمام أبي عمر ابن عبد البر - رحمه الله - حين يقول:
معناه والله أعلم أن
الصوم لا يظهر من بن آدم في قول ولا عمل وإنما هو نية ينطوي عليها لا
يعلمها إلا الله، وليست مما يظهر فيكتبها الحفظة كما تكتب الذكر والصلاة
والصدقة وسائر أعمال الظاهر.. لأن الصوم في الشريعة ليس هو بالإمساك عن
الطعام والشراب دون استشعار النية واعتقاد بأن تركه الطعام والشراب
والجماع؛ ابتغاء ثواب الله ورغبته فيما ندب إليه تزلفاً وقربةً منه.. كل
ذلك منه إيماناً واحتساباً لا يريد به غير الله - عز وجل -. الاستذكار
10/249.
ولهذا نلحظ جميعاً
التركيز النبوي على ربط الصيام بمبدأين عظيمين هما (الإيمان والاحتساب)
وبينما هؤلاء العلماء يتفيئون ظلال هذا القول الإيماني المؤثر.. إذا بثلة
أخرى من العلماء يستكشفون معنى آخر مخبوءً في الحديث نفسه.. فيلحظون أن
إحدى روايات الحديث جاءت بلفظ: (( كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها
إلى سبعمائة ضعف - قال الله - إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به))
فقالوا إن معنى تلك الإضافة الشريفة:
أن الأعمال قد كشفت
مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله،
إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير، وأني أنفرد بعلم مقدار ثوابه
وتضعيف حسناته، وأما غيره من العبادات فقد اطلع عليها بعض الخلق.
وهذا كقوله - تعالى -: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر 10.
والصابرون: الصائمون في أكثر الأقوال...
بينما التمس آخرون من
دلالات الإضافة.. تضمنها لمعاني الحب والقرب والتشريف، فقال بعضهم:
((الصوم لي)) أي أنه أحب العبادات إليَّ والمقدم عندي...
وقال آخرون: الإضافة إضافة تشريف وتعظيم كما يقال بيت الله وإن كانت البيوت كلها لله...
ولو ذهبنا نتتبع رحلات العلماء الاستكشافية في فضاءات هذه اللفظة القدسية لطال بنا المقام ولما استطعنا...
لكن حسبنا هذه الإشارات
التي مهما قلنا في جمالها وحسن بيانها فإنها ستبقى عاجزة عن الوفاء بما
تفيض به تلك الكلمة القدسية في قلب سامعها ومتأملها من معان الخصوصية
والقرب والحب..
جميل من الصائم وهو يتلمظ لقطرة ماء باردة يرطب بها جفاف عطشه.. فيكف نفسه عن إناء بارد يشعشع بالثلج..
أن يستحضر معنى هذا الترك لله..
فيستشعر نظر ربه إليه وهو
على تلك الحال.. فتهمل عيناه بدمعتين تحمل في طياتهما توسلاً مبتهلاً إلى
الله.. أن يتقبل منه هذا العمل القليل، فيرحم به عطشه يوم الظمأ الأعظم..
جميل من الصائم أن ينتقل
بفكره من بطنه التي تتلوى على قطعة حلوى هنا وطبق شهي هناك.. إلى استجلاء
تلك الحكم الربانية الجليلة من تشريع الصيام فيشعر بارتباط روحي بينه وبين
ربه، فيرى ربه ناظراً إليه، مطلعاً على حاله، وهو يترك مختاراً جل شهواته
وملاذه لله.. فقط لله.. ليس هناك قانون يعاقبه... ولا شرطي يراقبه...
فليس ثم إلا نظر الله واطلاعه على جهره وسره..
وهنا يترقى العبد في
مقامات العبودية، ومدارج الكمالات، فإذا به يرى نفسه مشرفاً على مقام
الإحسان ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))
لا تسل بعد ذلك عن فرحة هذا الصائم بربه حين يلقاه...
..................................
راجع أقوال العلماء في فتح الباري لابن حجر - رحمه الله - (4/ 140